إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من الأمور
يقول ابن القيم رحمه الله: (الثاني: مما يفيد العلم خبر الواحد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يخبر أحد بين يديه صلى الله عليه وسلم فيقره على الخبر ويصدقه عليه، فيكون ذلك بمنزلة لو أنه صلى الله عليه وسلم كان هو المخبر؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تشمل الإقرار كما تشمل النطق والإخبار، فمن أقر النبي صلى الله عليه وسلم خبره كان ذلك شرعاً منه، ومن ذلك مثلاً خبر الحبر الذي أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الله يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقوله )، فهذا الحديث صحيح رواه البخاري و مسلم و أحمد وغيرهم، وهو من أحاديث الصفات التي يؤمن بها ويعتقدها أهل السنة والجماعة ، وقد يقول قائل: كيف تعتقدون هذا الحديث وتؤمنون بما جاء فيه من الصفة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، وإنما قاله هذا الحبر من أحبار أهل الكتاب؟ فنقول: إن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له وتصديقه إياه دليل على صدقه، ولو كان غير ذلك لما أقره صلى الله عليه وسلم، فضحكه صلى الله عليه وسلم إنما هو تصديق لكلام الحبر، ولهذا اضطر المؤولون للحديث أن يقولوا: إنه ضحك استنكاراً، وهذا غير صحيح لا واقعاً ولا عقلاً).وفي هذا النوع من الأنواع تعمد ابن القيم رحمه الله أن يمثل بحديث في الصفات؛ لأنها موضع الجدل بين أهل السنة والجماعة وبين المؤولين والنفاة والمعطلين، فيقول رحمه الله: (وكخبر من أخبره أنه رأى السد مثل البرد المحبر فقال: ( قد رأيته )، فمثل بمثالين ابن القيم رحمه الله تعالى:المثال الأول: في الصفات كما ذكرنا، وهذا من فهمه وعلمه وذكائه.والمثال الثاني: الكلام في أمر غائب بعيد لا يستطيع أي أحد أن يدعيه وهو السد، أي: سد يأجوج ومأجوج، وهذا الحديث رواه الإمام محمد بن جرير الطبري و ابن مردويه عن قتادة قال: ( ذكر لنا أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رأيت السد فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: كيف رأيته؟ قال: رأيته مثل البرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء -الطريق المحبر: المخطط الذي فيه خط أسود وخط أحمر أو أبيض، ويقال: البرد المحبر أي: الثوب المخطط- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد رأيته ).قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا الحديث مرسل، أي: لا نعلم هل رواه أبو بكر بن مردويه متصلاً أو لا والله أعلم، وهذا الحديث على فرض ثبوته أو عند من يرى العمل بالمرسل فقد أخبر فيه الرجل بأمر غائب لا يستطيع أحد من الناس أن يتكلم فيه إلا بعلم؛ لأن السد أكثر الناس ما رأوه، بل النادر جداً الذي يستطيع أن يقول: أنا رأيته، فلهذا لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف رأيته؟ فأخبره قال: ( قد رأيته ) فأقره عليه، فيكون خبره صدقاً؛ لأنه وصفه.فهذا مثال لإقراره صلى الله عليه وسلم من أخبره، فكأنه أقره على أن السد هذه هي هيئته وصفته، وابن كثير رحمه الله ذكر ذلك نقلاً عن ابن جرير ليستدل به على قول من قال: القطر النحاس المذاب، وأنه جاء من اللون الأسود، قال: (( آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ))[الكهف:96] فكأن القطران هو الخط الأسود، وما عداه هو خط لون آخر، فيحتمل أن ظاهر القرآن يدل عليه، وأما المثال الذي يذكره المتكلمون ويذكره الرازي وغيره عند مسألة الآحاد قد جاء به هنا ابن القيم رحمه الله، فهو لقوة فطنته أتى بهذا المثال ليرد على مثالهم، وذلك المثال هو منارة الإسكندرية ، وهي منارة معروفة في القديم، وهي من أعظم عجائب الدنيا لطولها وارتفاعها فيوقد عليها النار لتهتدي بها السفن إلى الإسكندرية ، والرازي وغيره يمثلون بالمنارة على الخبر الذي لا ندري أيحتمل صدقاً أو كذبا، كمن أخبر أن غراباً وقع على منارة الإسكندرية ، والعقل لا ينفي ذلك، بل يمكن أن يقع الغراب على المنارة، والعقل أيضاً لا يثبته، فلا نستطيع أن ننفي ولا نثبت هذا الخبر الذي يسمونه الخبر المجرد من القرائن العقلية التي تقطع إما بثبوت وإما بنفي، فالتمثيل بالسد أعظم؛ لأنه أعجب وأغرب، ولأنه مما أخبر به الله تبارك وتعالى في القرآن، ثم أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يرى هذا السد إلا النادر من الناس، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله أن الواثق أرسل في خلافته جماعة مما يمكن أن نسميهم بهذا الزمان بعلماء الآثار، فذهبوا وتقصوا وقطعوا بلاداً عظيمة، ورأوا أهوالاً وعجائباً حتى وصلوا إلى السد ورأوه والله تعالى أعلم.وهذا لا يفيد المؤمن في دينه في شيء، فإن يعلم ذلك أو أن يكون قد رآه أو أن يعلم أين هو الآن لا يفيده، وإنما حسبك أن تؤمن به كما أخبر به ربك تبارك وتعالى، وكما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.إذاً: هذا شاهد للأمر الغيبي الذي لا يجزم العقل بنفيه ولا بإثباته كخبر الغراب على المنارة لا يجزم العقل به لذاته ولا ينفيه.النوع الثاني من من أنواع القسم الثاني: ترتيبه صلى الله عليه وسلم على خبر المخبر له مقتضاه، فالنوع الأول أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أقره فصدقه بما قال كما في حديث الحبر والرجل الذي رأى السد.